- 10 -
كان عسيراً علينا أن نفهم لماذا يجب أن يقتل آباؤنا وأحباؤنا على أيدي الانكليز. أن يتيتم الأطفال وترمل النساء، أن تدمر المباني، وتحرق المزارع والحقول، فيعم الخراب، وينتشر الحزن في كل مكان ..! ثم من هم هؤلاء؟ ما سبب عدائهم لنا؟ من أين أتوا ..؟
قرأنا في مقرر الجغرافيا أنهم جاؤا من جزر نائية، وراء البحار، على مبعدة آلاف الأميال من ديارنا، وأن بلادهم تلك، باردة ماطرة طوال العام.. وو.. إذن مالنا وما لهم؟ ولماذا وبأي حق يصرون على اقتحام حياتنا، هكذا عنوة واقتداراً وتطفلاً؟
هل مجرد كونهم (انكليزاً) ومحض كوننا (عرباً) يمكن أن يكون سبباً وجيهاً لهذا العدوان؟ أم ترى مبعث ذلك اختلاف ألواننا؟ أم لأنهم يتكلمون تلك الرطائة العجيبة التي لا تفهم ..؟
ويجيب أهلنا على تساؤلاتنا الكثيرة الحائرة، بأنها الثورة. وكأن هذه الأجابة المقتضبة تكفي لأن نفهم كل شيء، أو تفسِّر لنا أياً من تلك التساؤلات. بيد أن هذه الأحداث أمست جزءاً من حياتنا اليومية، فأصبحت من ثم، تحظى بغير قليل من اهتمامنا، بل وتشكل هماً حقيقياً لنا، فباتت شغلنا الشاغل. فما أن نلتقي في الفسحة، بين الدروس أو في الملعب، أو في الطريق حتى نبادر إلى تداول الحكايا عن بطولات ثوارنا الخارقة التي كنا نسمع عنها. ثم غدونا ننقسم إلى جماعات تتحزب كل منها لواحد من قادة الثورة البارزين، مضفية عليه هالات من البطولة، ناسجة حوله فيضاً من الأساطير والخوارق، تفاخر به الجماعات الأخرى، لكأنما تلك البطولات من صنعها هي ..!
نسمع عن فوزي القاوقجي :
صهيوني دبر حالك /نفدوا الثوار../ معهم فوزي القاوقجي / بطل الأحرار..
الشيخ عز الدين القسام أبو الثورة الأول القادم من سوريا ليستشهد في أحراش يعبد .وهو الذي عمل على قيام الثورة عام 1936، وكان جهاده نبراساً للثوار والأحرار.
القائد حسن سلامة.. عبد الرحيم الحاج محمد - أبو كمال -.. عبد القادر الحسيني.. الحاج أمين الحسيني :
حاج أمين يا منصور..! بسيفك هدينا السور ... (حتى دون أن ندري عن أي سور يتحدثون. !! سيف الدين الحاج أمين ..!
كنت من أنصار القائد عبد الرحيم. منذ ذلك اليوم الذي سمعت فيه أن هذا القائد يملك قدرات خارقة على مجابهة الانكليز، والإفلات من شراكهم وكمائنهم، ثم الظهور بغتة في أي مكان ليهاجم دورية، أوينسف مركزاً للبوليس، ويختفي بعد ذلك، في طرفة عين، ليظهر من جديد في مكان آخر.. وأن أعماله هذه قد أعيت قوات الاحتلال حتى أنها كرست عدداً غفيراً من جنودها، كما رصدت مبالغ طائلة من أجل القاء القبض عليه حياً أو ميتاً ..!
أرسم له في مخيلتي صورة مثالية تتناسب وما أكنُّ له من إعجاب و إكبار. ولم يكن رفاقي أقل حماسة في تصوراتهم عن أبطالهم المفضلين. وكم تمنى واحدنا لو يشب عن الطوق فجأة ليغدو واحداً من هؤلاء كي يصبح ذكره - مثلهم - على كل لسان ...!
اتفقت مع الرفاق على التوجه بأسئلتنا هذه إلى أحد معلمينا. وقع اختيارنا على الأستاذ (عبد الخالق) مدير المدرسة. فهو خير من يمكن أن يستمع إلينا بسعة صدر، خلافاً للشيخ (محمد أبو العينين) العابس مكفهر الوجه على الدوام، أو الأستاذ (أبو مهدي) الذي يعتقد أننا صغار.. (عفاريت) لا نستحق عناء الحديث إلينا في قضايا كهذه ..!
قرع جرس الصباح. انتظمنا صفوفاً أمام بناء المدرسة، ومن خلفنا حديقتها الحافلة بالأشجار والأزهار. الأرض مفروشة بالرمل الأصفر، وحصى مجلوب من الشاطئ، مصقول أملس. أشجار الكينا العالية والسرو والصنوبر تحيط بالمدرسة من شتى أرجائها، يسمع حفيفها الهادئ فيدخل إلى نفوسنا البهجة والطمأنينة منذ بداية النهار. أشار الأستاذ للصفوف، فشرعنا ننشد :
بلاد العرب أوطاني/ من الشام لبغدان/ ومن نجد إلى يمن/ إلى مصر فتطوان
فلا حد يباعدنا / ولا دين يفرقنا / لسان الضاد يجمعنا / بغسان وعدنان
كف الأولاد عن صخبهم فور دخول الأستاذ عبد الخالق. ساد الصمت. قبع الجميع في أماكنهم، إذ كان أستاذنا هذا يخطرنا بأنه إذا ما دخل غرفة الصف، فيجب أن يسمع صوت الأبرة إذا ما وقعت على الأرض ...! بادر نعيم إلى رفع يده، حين كان الأستاذ عبد الخالق يتفحص دفاتر وأوراقاً بين يديه. تنبه له بعد لأي. تساءل في غير أكتراث :
-ماذا يا نعيم ..؟
قال هذا مرتبكاً :
- أستاذ.. سؤال من فضلك ..
- تفضل.. هات ما عندك ..يا فتَّاح يا عليم.. !
- سؤال عن الانكليز.. أعني الثورة
وجم الأستاذ برهة. ثم قال، وعلامات الدهشة بادية على وجهه النحيل، وفي عينيه الضيقتين الحادتين كعيني صقر:
- ماذا تقصد يا ولد ..؟ مالك أنت والثورة ..؟
- نريد أن نفهم لماذا يقتل الانكليز أهلنا؟ لماذا يعتدون علينا؟ هؤلاء الذين استشهدوا بالأمس.. وهذه المباني التي نسفوها.. لماذا يفعلون هذا بنا ؟
ثقل الصمت إلا من صوت حفيف الأشجار عبر النوافذ، فيما أخذ الأستاذ عبد الخالق يذرع الغرفة، جيئة وذهاباً، ويداه معقودتان وراء ظهره، تماماً كما كان يفعل نابليون قبيل دخول المعركة (هكذا قيل لنا أنه كان يفعل)..!
بعد لحظات سادها الترقب المشحون بالتوتر، اتجه الاستاذ إلى باب الغرفة فأغلقه، ثم عاد ليقف بمحاذاة أول صف من المقاعد. بدا عليه اهتمام غير عادي، يوحي بأن ما يعتزم قوله شيء ليس من قبيل (الثور الأسود الذي أُكل يوم أكل الثور الأبيض)، أو الثعلب الذي احتال على الحمار فأكله في قلب الغابة.. لأنه حمار ..! أو ليلى التي أكل الذئب جدتها ..! قال بصوت خفيض النبرات :
.. ما سأقوله لكم يا أبنائي، يجب عليكم أن تعوه جيداً. وليكن هذا هو موضوع درسنا اليوم. لكنه درس للحفظ في قلوبكم. امتحانكم فيه عندما تصبحون شباناً. والممتحن آنذاك هو الوطن.. فلسطين أمكم ..!
نظر بعضنا إلى بعض في دهشة ممزوجة بغير قليل من الخيلاء. تخيلنا للحظات أننا سنصبح ثواراً.. نحمل البنادق.. نتبادل المطاردة مع جنود الاحتلال من الانكليز. أعادتنا إلى الانتباه متابعة الأستاذ لكلامه بعد هنيهة صمت :
- الانكليز احتلوا بلادنا منذ نيِّف وعشرين سنة... غايتهم الاساسية من وراء ذلك أن يجلبوا إليها يهوداً من وراء البحار.. من كل أرجاء الدنيا ..
هب أحد التلاميذ ليسأل :
- ولكن لماذا يترك هؤلاء بلادهم ويأتون إلى بلادنا نحن ؟
أجاب الأستاذ موضحاً :
- يريدون أن يقيموا لأنفسهم ((وطناً قومياً)) يجتمع فيه يهود العالم. هذا ما وعدهم به وزير بريطاني اسمه ((آرثر بلفور)) في أوائل عهد الاحتلال، وبالتحديد في الثاني من تشرين الثاني عام 1917 أي قبل أن تخلقوا أنتم بزمن طويل. أي أنه قرر مصيركم حتى قبل أن تولدوا هل تفهمون؟ ويبدو أن ذلك كان أكبر من أن تستطيع فهمه مداركنا، فهب تلميذ آخر لكي يسأل :
- ومن هو بلفور هذا حتى يعدهم بذلك ..؟ وهل يملك هذا البلفور البريطاني أرضنا حتى يهبهم إياها وهو القاطن في تلك الجزر النائية ..؟
قال الأستاذ عبد الخالق مبتهجاً لهذا الوعي المبكر في تلاميذه النجباء ..!
هاه.. من أجل هذا قامت الثورات
تشجع تلميذ آخر، فقال :
- لكن لماذا بلادنا بالذات ..؟
- لأنهم يزعمون بأنها أرضهم الموعودة .
- وما معنى الموعودة يا أستاذ؟ وممن ؟
- يزعمون أيضاً أنهم أقاموا في هذه الديار قبل آلاف السنين، وأنه كانت لهم فيها دولة، اندثرت فيما بعد. وأن كتابهم - التوراة - يعدهم بالعودة إليها، ولو في آخر الزمان أي في هذه الأيام..! ليقيموا دولتهم من جديد ..!
- ونحن أصحاب البلاد ،الحقيقيين.. منذ آلاف السنين حتى الآن، كما شرح لنا أستاذ التاريخ. ما شأننا ؟
- يبدو أن أحداً لم يفكر في ذلك يا بني .
- ولكن من يعترف اليوم بملكية أحد لشيء قبل آلاف السنين ..!
- من أين تأتي بهذا الكلام الكبير يا ولد ؟
- في السرادق - يوم الشهداء - هكذا سمعناهم يقولون .
- حسناً.. حسناً.. هو أمر مضحك بالفعل يا أبنائي.. ولكن حتى الأمور المضحكة تصبح جدية حين تدعمها القوة. حاول الانكليز واليهود معاً أن يفرضوا علينا هذا المنطق وهذا الواقع بالقوة التي يملكونها. ونحن، من ناحيتنا نرفض ذلك ونثور عليه. ها نحن نطالب الانكليز بالجلاء عن بلادنا وبالاستقلال والحرية لشعبنا. قال أحد التلاميذ، إذ تحول الحديث إلى حوار ودي بيننا وبين أستاذنا :
- ولماذا يساعد الانكليز اليهود ضدنا، مع أننا نحن الذين على حق ..؟
- هذا لو كانوا قضاة يا بني.. لكنهم ليسوا قضاة.. الانكليز واليهود متفقون على عداوتنا لأسباب تاريخية، لا أريد الخوض فيها الآن. أذكركِّم فقط بشيء منها. قرأتم في دروس التاريخ عن الحروب الصليبية.. أليس كذلك؟ ليس هذا وقته على أية حال .
نظر إلى الساعة في معصمه، ثم أردف قائلاً :
-.. ولكني أكتفي بالقول الآن، لكي تكتمل الصورة في أذهانكم، بأن لكلا الطرفين أطماع في ثروات بلادنا، كما في موقعها الجغرافي. وستعرفون هذا في المستقبل أيضاً، في الصفوف الأعلى .
صمت من جديد برهة من الوقت، ثم قال، وهو يركز بصره علينا:
- لا تنسوا درسكم هذا. تذكروه دائماً إلى أن تكبروا وتصبحوا بدوركم ثواراً ..!
غادرنا قاعة الصف.. انطلقنا إلى بيوتنا، بمرح وحماسة نردد في الطرقات:
نحن الشباب لنا الغد / ومجده المخلد / نحن الشباب ..